توطئة: هذا استبصار في آية قرآنية، ومحاولة دخول معناها من بوابة اللغة، عبورًا في سراديب الخيال والحدس المُفضية إلى حدائق المعنى المشعّة. وليس في ذلك ادعاء كشف الحقيقة، بل هي محاولة لاستشراف الدلالات الكامنة في الآية والاقتراب من مقاصدها الخفيّة ما أمكن، عبر شحذ طاقة الخيال واللغة والفكر.
ما يغري في تأمّل آيات القرآن أنّ غموضه يخبئ الحقيقة، فالقرآن مملكةُ معنى متجسّدةٌ مملكةً لغويةً لها بوّاباتها وطرقها. وبإعمال الفكر فيه مع التوفيق، لا بدّ أن يصل السائل والمتفكّر في آيِهِ إلى معنى راسخ ونتيجة ناصعة.
حقيقة الحور العين
والحقيقة التي نبحث عنها هي معنى الحور العين الواردة في القرآن الكريم ﴿كَذَٰلِكَ وَزَوَّجۡنَٰهُم بِحُورٍ عِينٖ﴾ (الدخان: 54).
تأويل المتشابه
يعرّف الراغب الأصفهاني الآيات المتشابِهات في المفردات في غريب القرآن: “والمتشابِه من القرآن ما أشكل تفسيرُه لمشابهته بغيره إمّا من حيث اللفظ أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء المتشابِه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده ]…[ والمتشابِه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة” (ص 254، دار المعرفة بيروت). ومن الواضح أنّ هذه الآية متشابِهة فهي غامضة تحمل وجوهًا متعددة للقراءة، ولا تعني ما توحي إليه بالظاهر؛ النساء. أصلًا لم يرد ذكر للنساء بل صفاتٌ جماليّةٌ كثيرًا ما توصَف بها النساء. وهي مثل غيرها من آيات وصف الجنة، كأنهار اللبن والعسل والخمر والماء.. التي لا تعني اللبن والعسل والخمر الذي نعرفه، بل تشير إلى معانٍ باطنة تؤوَّل تأويلًا. والتأويل كما يعرّفه الأصفهانيّ ردّ الشيء إلى أوّل: “التأويل من الأَوْلِ أي الرجوع إلى الأصلِ ومنه الموئلُ للموضعِ الذي يُرجعُ إليه وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علمًا كان أو فعلًا” (المصدر نفسه، ص 31).
فكيف السبيل إلى إدراك معنى الحور العين؟
تفكيك الرموز
لغةً: الحَوَر: “امرأة حوراء: بيّنة الحَوَر. وعينٌ حوراء والجمع حورٌ”. “والحَوَرُ أَن يَشْتَدَّ بياضُ العين وسَوادُ سَوادِها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيضَّ ما حواليها؛ وقيل: الحَوَرُ شِدَّةُ سواد المُقْلَةِ في شدّة بياضها في شدّة بياض الجسد” (لسان العرب: مادّة حور). فحَوَر العين شدّة سوادها مع شدّة بياضها.
العَيَن: “ومن باقي كلامهم في العَين العِينُ: البَقَر، وتوصف البقرة بسَعَة العين فيقال: بقرة عيناء”. “وعِينَةُ كلِّ شيء: خيارُه، يستوي فيه الذكر والأنثى، كما يقال عَيْنُ الشيء وعِينَتُه” (لسان العرب: مادّة عين). فالعَيَن تفيد السَعَة والجَوْدة.
والموصوفات في الآية، إذًا شديدات سواد العين شديدات بياضها مع سَعَة وجَودة فيها.
العَيْن:
لغةً: من معاني العَيْن في اللغة النفس، “وعينُ الشَّيء: نفسُه” (لسان العرب: مادّة عين). وهذه أوّل قرينة قويّة لما سنذهب إليه. إذًا إن كانت عين الشيء هي نفسه، فعين المرء تشير وتدلّ على نفسه.
تأمّلًا – العين بوّابة النفس: وهذا ما يفيده النظر والتأمل في العين البشرية كذلك. فما الذي تعنيه العَين إذا عَدَدْناها رمزًا أو مفتاحًا؟ أي إذا نظرنا إليها أبعد من كونها آلةً للإبصار.. العين ترجمان النفس ومرآتها. إذا تأمّلنا في جسدنا نجد أنّ العين هي العضو الفصيح الوحيد مقابل الأعضاء المبهَمة كلّها. وأعني بفصاحتها مائيّتها المُعبِّرة كأنّها ناطقة. لكن المعبّرة عمّ؟ عن انفعال النفس من حزن وفرح وغضب، الطمأنينة أو الشك، الإنكار والرفض والقبول.. انفعالاتها جميعًا. كلّ هذه دلالات غير عابرة بل مدروسة دقيقة، تعبّر عن كمال خلق الله وكمال حكمته في خلقه. إذًا تعبّر العين عن النفس فهي مرآتها. فإذا أردت أن تعرف نفسَ امرئ وحالَها نظرت في وجهه وتحديدًا عينيه، وبمجرّد أن يحصل انفعال في الأولى تُترجِمُ الثانية. فالعين بالتأمل تشير إلى النفس كذلك، وهذه هي القرينة الثانية.
بلاغة الإيحاء – الرمز المحكَم: وَزَوَّجۡنَٰهُم بِحُورٍ عِينٖ.
هنا البلاغة القرآنيّة بالإيحاء والإشارة. ذكرنا أنّ الآية لا تعني ما توحي إليه ظاهرًا: أي رجالًا يُزوَجون نساءً جميلات، ومع ذلك فهذا هو الانطباع الأوّل في الذهن. وهذا الانطباع المستمَدّ من حياتنا هو المادّة التي سنأخذ منها عجين المعنى. فهو إيحاء بظاهرٍ إلى باطن، وهو مفتاح لدخول المعنى الحقيقيّ للآية. فمِن تزاوجِ رجالٍ بنساء جميلات، من هذا الانطباع الأوّل الخطأ لكن الضروريّ، ننطلق. وهنا عبقريّة القرآن؛ إذ خاطبَنا بما تذهب إليه عقولنا مباشرة دون تردّد حين تسمع عبارة “حور عين” بعد “زوّجناهم”، بأنهنّ نساء. فالحوراء والعيناء صفتان جماليّتان توصف بهما عيون النساء عامةً، أي إنهما إشارة إلى ذوات العيون الشديدة البياض الشديدة السواد الواسعتها من النساء. يريدنا أن نفكّر بالنساء إذ هنّ المفتاح والبوّابة، ليسحبَنا إلى المعنى الكامن فيهنّ، إذ لسن هنّ بذاتهنّ المعنى المطلوب.
فما الذي ترمز إليه النساء؟ ما هنّ النساء أولًا؟ إنهنّ أنفسٌ. لقد جعل الصفة (وهي الأنوثة بإيحائه إلى النساء بلفظ حور عين) دليلًا على الموصوف (النفس). أي قاد التفكّر والخيال من الظاهر (صفة النفس: نساء) إلى باطنها: النفس.
وهذه هي القرينة الثالثة التي تشير إلى النفس، بعد القرينة اللغوية (من معاني العين النفس)، والقرينة التأملية (العين رمز النفس). وها تأخذنا الحور العين إلى معنى النفس مجددًا، فالحورُ العينُ أنفسٌ.
إذًا صار لدينا أنفس مؤمنين تُوفيت وصعدت حرّةً من الجسد ومن الذكورة والأنوثة، وقد شابتها نقوصات في الدنيا يريد لها الله التكامل بارتباطها بحورٍ عين في الجنّة، أي بأنفسٍ كاملةٍ وصفَها بالحوراء العيناء. إذًا سيحصل تزاوج، لكنه تزاوج غير الذي نعرف، بل حقيقة التزاوج والارتباط الكماليّ، لأنّ الجنة هي العالم الحقيقيّ.
الحوَر: أشرنا إلى أنه يعني شدّة بياض العين في شدّة سواد. والآن بما أنّا عرفنا أنّ الحُور العين هنّ أنفسٌ لا نساء، وأنّ العَين ترمز إلى النفس. فما معنى الحوَرَيّة دلاليًا في النفس؟ شدّة البياض مع شدّة السواد في العَين هما كمال جماليّ لها، أما دلاليًا فحَوَرُ النفس كمالها المعنويّ إذًا. لكن كيف رمّز الحقّ لكمال نفسٍ باستخدام اللون؟
لننظر إلى العَين الحوراء: شدّة بياض محيطة بسواد شديد. لنفرد الدائرتين أفقيًا بتصوّر سلّم لون أفقيّ: أوّل درجاته بياض، عبورًا بكلّ درجات اللون، وصولًا إلى الأسود فالأسود الشديد. ما الذي يعنيه هذا؟ إذا شبّهنا الوجود باللون، فالنفس الحوراء تضمّ كلّ الوجود لأنّها تضمّ كلّ الألوان. هكذا أراد الحقّ أن يخبرنا بأنّ هذه الأنفس الحوراء كاملة إذ جمعت الألوان جميعًا من الأبيض حتى الأسود مبتدأ اللون ومنتهاه، أي ضمّت طرفَي الوجود كلّه. أوَليس الإنسان كونًا مصغرًا، أوَليس الوجود درجات كاللون؟ أو ليس القرآن عبقريًا ببلاغة تأخذنا بدقّة واحتراف إلى جنانِ عوالمِ المعنى المشعّةِ التي فيه؟!
هذه الحور العين إذًا هي أنفس كاملة، لأنّها جمعت طرفَي الوجود معبرًا عنه بالحَوَريّة. وهي فوق ذلك راسخة، لأنها “شديدة” البياض و”شديدة” السواد، فالرسوخ كمال زائد. إذًا زوّجناهم بحور عين، أي أكملنا نقوصاتهم بضمّهم وجمعهم إلى أنفسٍ كاملةٍ راسخة في الوجود، جزاءً لتقواهم.
لكن لننتبه إلى أنّ الأبيض هو نقيض الأسود، فكيف يتجسّد ذلك في النفس الكاملة؟ الأنفس الكاملة تجمع أضدادًا لأنها تحمل الكون كلّه، فالبياض والسواد هما طرفان نقيضان. إذا قسّمنا الإنسان جزئين أو عالَمين: عالم سماويّ وعالم أرضيّ بانت المسألة. الجانب السماويّ هو أبعاده العلميّة والعقليّة والروحيّة، العرفانيّة، الإبداعيّة الخياليّة.. والجانب الأرضيّ هو قواه الشهويّة، الشوقيّة، الغضبيّة الحَربيّة، والوجود البدنيّ.. فلنشبّه الأوّل بالأبيض والآخَر بالأسود. هكذا تجمع هذه النفس الجانبين معًا في اكتمالها.
ومثال ذلك عمليًا: تحمل النفس الكاملة في طيّاتها قوى متنافرة ومتعدّدة كالحبّ والحرب، فالحب ينتج من قوى الشوق أما الحرب فتصدر من نقيض الشوق؛ الغضب. أو كالحرب وهي الجانب المقاتل من الإنسان، مجموعةً إلى تحليقه الفلسفيّ وعمله في العلوم العقليّة الدقيقة العلويّة كاستنباط المسائل والفقه. فالغضب يقع في منطقة وسطى من النفس: الصَدر (راجع الطيماوس واكريتيَّس لأفلاطون: الفصل السابع بعنوان روح الإنسان وجسده)، فيما الفلسفة تُنال من أمكنة العقل العليا أو ما يسميه الفلاسفة الروح. ولتلك القوى كمالاتها: فالحرب في الحقّ كمال زائد في الغضب، والفلسفة في الحقّ كمال للعقل…
القابلية والفاعلية:
كذلك قد يعني البياضُ القابليةَ، والسوادُ فاعليّتَه وتحقّقَ هذه القابلية. أو بمعنى أدقّ فلسفيًا كتحوّل الشيء من القوّة إلى الفعل (راجع القوّة والفعل في معاجم الفلسفة). ما الذي يدعونا لنفكّر هكذا؟ أشرنا إلى أنّ البياض رمز لبداية الوجود. فما أوّل وجود الشيء؟ قابليّته للوجود كأنها البياض أو الشفاف، ثم وجوده، ثم نموّه وتطوّره، حتى رسوخه الذي قد يُعبَّر عنه بالسواد.
إذا تأمّلنا في العين الحوراء انطلاقًا من البؤبؤ: السواد، فقلنا هذا مركز النفس ثم بدأنا الخروج نحو البياض وحوافّه، كنا كمن يسافر رجوعًا إلى الوراء من وجودنا. فماذا نجد قبل وجودنا: الإمكان، إمكان وجودنا أو القوّة. فالبياض السابق للسواد والمحيط به هو إمكاننا ووجودنا بالقوّة قبل أن ندوس في السواد ونكون في الفعل. وفي دائرة البياض احتمالات محصولاتنا من الوجود: علم، جمال، قوّة، غضب، شهوة، مكرمات… إنها إمكاناتنا البيضاء التي تحقّقت في السواد الفاعل ونمت عبر العُمر.
البياض محيط بالسواد تمامًا مثلما تحيط القابليّة بالفاعليّة أو الإمكان بالفعل، مثلما تتحوّل القابلية إلى فاعلية: مثلًا القابلية لفهم الفلسفة تشبه البياض، كيف تصبح سوادًا؟ بدرس صاحبها الفلسفة والتفكر ولعلّه تقدّم فيها فكتب كتبًا، أي بتحقيق القابلية فعلًا. وقِس على باقي الكمالات المعنوية الأخلاقية والعلمية. يرمز السواد إلى الرسوخ الوجودي، رسوخ الذي كان بياض قابلية، أي تطبيقه وتمثيله. إنّ النفس الكاملة هي نفس مستعدّة استعدادات كبيرة نظرية وقد جسّدتها عمليًا.
العَيَن (سعة العين): إذا كان الحَوَر يعبّر عن كمال الوجود ورسوخه، فالعيَنهو سعته، فهذه النفس كبيرة واسعة لها قابليات رَحبة تتوسع فتتوسع فاعلياتها، فيتسع وجودها، كأنّها كرة وجود كبيرة. وعلى ذكر الكرويّة التي تشير إلى الكمال يصف الحقُّ الحورَ العين في موضع آخر ﴿وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)﴾ (الواقعة)، فاللؤلؤ كامل الاستدارة عدا عن علوّ معدنه. ومثلما تجمع العين الصورَ عبر الضوء، كأنّ هذه النفس قد جَمعت صور الوجود جميعًا في بؤرتها فهي واسعة كبيرة ومؤهلة لأن تستقبل كمًّا كبيرًا من الضوء؛ ضوء الوجود.
نتيجة: النفس الحوراء الكاملة إذًا هي النفس التي جمعت الأضداد: العلم مع القوّة، الإرادة القويّة مع الأخلاق العالية، الفنون مع المنطق، التحليق مع الواقعية… لكأنّ هذه النفس اقتُطفت من عنقود فهي متراكبة متنوّعة متعدّدة، تجدها في الأدب والحرب، تجوب آفاق العقل في كلّياته العالية وهي متنبّهة في الحاضر والواقع… تذهب إلى أعالي الفلسفة مرسّخة وجودها العلويّ وتعود إلى الأرض قد رسّخت وجودها الماديّ، مختلفة المواهب، متضادّة ذوات أحوال شتى لها شؤون مختلفة، قد فُعّلت وافتتحت أكوادَها فصارت كونًا رحبًا. (وقد طرحت مثلًا عمليًا واقعيًا لتقريب صورة هذه الأنفس الحوراء التي لا نعرف عن كمالها وحقيقته إلّا ما يمكن استشفافه من واقعنا).
أما قصّة الآية فهي أنّ أنفس أتقياءٍ صعدت إلى جنّاتها ناقصةً من جهات فيها: فلعلّ بعضها لا يزال مشتملًا على بخل، جبنٍ لم يتخلّص منه أو حرص، خوفٍ في غير محلّه، نقصٍ علميّ والعلوم شتى.. كان التزويج بالحور العين هو إكمالها. وقس على ذاك أنواع النفوس وإقاماتها الإقامات المختلفة من قواها: فهذا قويّ العقل ضعيف المتخيّلة، وآخر قويّ الخيال والحسّ ضعيف الغضب.. هذا نظريّ أكثر، ذاك أرضيٌّ مقيّد بأرضيّته لا يحلّق صعودًا… هؤلاء يزوّجون نفوسًا كاملة تسدّ فراغ كلّ منهم فيكتملون، وتصبح صوَرُهم كراتٍ مكتملة من البياض والسواد، تمامًا كأكمل العيون: الحوراء.
انظر في العين ترَ وجود نفسها، حياتها، الصور التي امتصّتها: صور الشهوة، الغضب، العلم، النور المتخلّل من أعلى.. إغماضها وانطماسها جهلًا دون العلم، ترَ رسوخها من جهات وخفّتها من جهات، ترَ حتى الحقّ فيها إن كان أطغى أو الباطل، ترَ علوّها ونبلها، وتر هبوطها متخلّلة في أقبيتها، خفّتها، عجلها، وثباتها، هدوءها العاقل، مكرها، بساطتها وطينتها.. ترَ الميتة منها والحيّة الروح. إنّ العين دليل على الروح لا يُخطئه مستبصر، العين دليلُ المعنى وثقبه الأسود.
روابط:
https://yaasub.jamilalshamaa.com/
https://www.linkedin.com/in/mohamad-hachem-a94131a3/
https://ia801808.us.archive.org/32/items/lis_fa18/lis_fa1801.pdf

