ما العربيّة؟ ترِكَةُ قريشٍ الأنقى عامًا بعد رحلاتٍ بعد أسواقٍ بعد حَوليّاتٍ بعد ألسنٍ تدالعت أزمنةً، وبطونٍ تكابشت لهجاتُها تشدّ إليها فزبدت واصطُفيت. أعمدتها من صخرٍ راسخٍ في جبال القول وطين البلاغة منقدحًا معلقاتٍ ونثارًا جاهليًا. ولغة القرآن من بعدُ؛ المعجزةِ المدوَّنةِ في الخلود، البلاغيّةِ الكبرى التي فجّرت عيون المعنى وأيقظت الغفلى وأعجزت بالأنباءِ والحِكَم والآيات. لغة نهجِ البلاغة و”دعاء الصباح” وأدب الدعاء الأعلى “مكارم الأخلاق”.
لغة أبي تمام والمتنبي، أبي العلاء، وأبي نواس.. أشعارهم سُقيت بأمواه زاحلةٍ بعلومٍ وحِكَمٍ وكلامٍ من فارس واليونان والهند.. أمواه تلاطمت فأبدعت. ولغة العارفين المتصوّفة الذين بزّوا فحول الشعر بقيلٍ أفزَع الشعر، كقول النفري: “أوقفني في الثوب وقال لي إنك في كلّ شيء كرائحة الثوب في الثوب” (موقف الثوب). لغة حِرَفيّيها البلاغيين وفقهائها: الجاحظ، الجرجاني، أبي هلال العسكريّ.. وقد قلّب كلّ منهم وجهاً من وجوهها، أو بسط حرير إستبرقها خطفاً ليبسط غيره العبقريّ من كثرتها. وهؤلاء، ومَن مثلهم، بعيون مطرقةٍ طويلاً وراء نظّارات فقيهةٍ بالمعنى تملّوها وعبّوا منها فأغدقتهم من هباتها وقد مُلئَت كؤوس مواهبهم وقابليات فِطَنِهِم من شرابها المُدَّهِق. أم لغة الكلاميين: ابن الحديد العلّامة في شرح نهج البلاغة أم الشهرستاني الفقيه المثقف الكبير الفيلسوف بنصٍّ يشدق الأفواه عن موسى والخضر (مجلس مكتوب در خوارزم بلغة فارسية!)، أم لغة الحكماء حكماء الحُكْمِ والمجتمع كرسائل ابن العميد ولا كمثلها، أم لغة الفلسفة الخالصة كفلسفة إخوان الصفاء وأكثر منها جفافاً وتخصّصًا ابن سينا في مطارحاته وخوضه وكشوفاته العلميّة المذهلة عن النفس والعقل ومراتبهما، أم لغة الأدب البارع الملثوث بالفلسفة الطالع من الرواية كفلتات أبي حيان وأنسه وطرائف الحريري ومقاماته.. أم لغة الفقه بالمذاهب كلّها بأدوات ولغات العقل والمنطق، أم لغة لغويّيها بألسنة تتكلم إلى اليوم: ابن منظور إلى ابن جني إلى سيبويه، كانوا لها أهلًا ولا من يقدر عليها من بعدهم.
لغة المفاعيلِ والمفاعيلِ لأجلِ ومع، مطلقةً كلُها في النصب الممتدّ المتضاعِف في التنوين بإيجازٍ فذّ “متاعًا لكم ولأنعامكم”، لا “provision for you..” أو بالفرنسية “une provision pour vous..” وبألفاظ عَجَبٍ “الصاخّة” لا “defeaning shout” وبالفرنسية “le cri assourdissant” قال!!
لغة الرحّالة النسّابة والأطبّاء والظرفاء والندامى.
أقليل علماؤها؟ ابن الهيثم وابن حيان وابن سينا طبيبًا وجرّاحًا وعطّارًا الفارابيّ وغيرهم.. بلغاتهم التي تكاثرت أسماءً ورموزًا ووسائل ورسائلَ ومنظارات..
ولغة المفسّرين في كشف آيات الكتاب وفيوضه.
لغةٌ استوعبت قصيدة النثر بهدوئها الغربيّ الحارق وتحمّلت ضَبْحَ أحصنةِ البلاغةِ الشرسةِ المتعالية، ثم دخل أولو “شعر” من أبوابها الكثيرة وخرجوا حاملين ما حملوا: جدّدها أُنسي بلغات ما قبلَها الإنجيل والتوراة، جدّدها بـ “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” وحدَها وبـ “ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة”! أدونيس فكّكها متمرّدًا وأعاد جَمْعها.. المثقل بتراث كامل والمتذمّر منه.. نسفه وأعاده آخَرَ.. المغوطُ الذي أخرج قصيدة النثر بلحم ودم.. كيف أنزلها من أبّهة البلاغة العليا إلى أزقّة تنزف بلاغات وشعرًا، غلب ثقله وثقته الحاسمة بهرجَها التاريخيّ المركوز ركزاً غيرَ آمن وخفيًّا إلّا على مقاتل خبير مثله. ثم أفلت سليم بركات ماء تخومها على زرع برازخِها فأنبتَ وأعجَب ورفعها قوافل متخمةً في الجوّ كأن عهد بها إلى الجنّ، ولاعبَها شوقي أبي شقرا وكسّرها وهي اللدنةُ المتصلة؛ كسّرها أحجياتٍ وصورًا وانطباعاتٍ ساحرة. وبيضون الناضج مبكراً كما قال أُنسي مرّةً غرّبها وأنشد ثم “صور” نشيدًا أكبر من قصيدة وأدنى من ملحمة.
لغةُ عتاتِها: الجواهري، بدويّ الجبل، سعيد عقل، شوقي وللحرية الحمراء.. ونثار المصريين وأشعار العراقيين الذين سيّلوا تفاعيلها: من السياب إلى النوّاب.. أجيال متحت على ضفتيها وعبّت، لغة الرحابنة العشّاق أم لغة مسرفيها ومُترَفيها نزار وغيره؟!
لغة التمييز والأحوال والمفاعيل المطلقة والجمود والاشتقاق والبناء والإعراب: كلّ هذا مقيس على أسس منطق ورياضياتٍ وكلامٍ وعمارة.. لغة الجمّل والأسرار والإرث الكبير ازدراها ساسةُ اليوم، وجمّدها مدقّقوها تلامذتها الحُروفيّون المنشغلون عن فخامتها وأريحيّتها، واستقبلت علوم المصطلح الحديث لولا ركاكةُ من تنطّحوا ليكونوا “مفكرين” أو “نَقَلَة” فنقلوا خبط عشواء مصطلحًا، وسمّى كلٌّ منهم كما شاء فبارت تجارتهم وضاع فيها مساكين العلم طلّاب الجامعة.. فمن يفكّ حُبستها؟

