صدّقتُ أخيراً أنّ “المياه بلون الغرق”..

sea storm

كاد ظهري يقتلني من شدّة الألم بعد ساعات 4 أو 5 في مكتبة الجامعة أنسخ أوراقاً من كتاب بخطّ يدي.. قلت لا دواء كالبحر. قرب عمود الجامعة الأميركية في بيروت حيث أسبح عادةً، نزلتُ الماء وحدي.

 لا شيء كالبحر، أهل البحر من الـ 14 إلى الـ 70 يسبحون صيفاً شتاءً..

كان رائقاً وماؤه المثلج يشعرك بالدوار، والنقطة التي نسبح فيها تُشبه خليجاً صغيراً بأمواج تأتي من كلّ جانب.

سبحت على ظهري ونمت أطفئ الألم الحارق، أعوم وأنام حتى صار لي 15 دقيقة تقريباً، قلت أَخرُجُ. كنت بعيداً عن السلّم نحو 15 إلى 20 متراً.. سبحت عائداً، وقبل وصولي السلّمَ بخمسة أمتار أفاق البحر بعينيه الوحشتين وقال لي: لا! شددت عزمي وسبحت برأسي تحت الماء وفوق الماء فأمسكني بيديّ وصدري ودفعني، غَضِبَ أكثر! سمعته يسبّ ويشتم، صار صاخباً وهائجاً وساخطاً، وأنا أستنفد طاقتي بالكباش معه. أنت مَن تكابش؟ البحر؟ على أرضه؟! أحسست بأنه أكبر مني، ونظرت ورائي كان قد جيّش موجَه الهادرَ بزبده، المُعَدَّ للحظات كهذه وراح يعلو. البحر جائع.. شعرت بالخوف.. صار يصخب أكثر.. نظرت إلى السلّم، كان آخر “السبيحة” يغادر وهو يلفّ منشفته على خصره، وصيّاد حانق يقف بعيداً عني بوجه ناقم ينتظر سمكة دون أن يلتفت. بدأ البحر يصدر خواره الشتويّ الذي نخافه مذ كنّا صغاراً، ذلك الصوت الذي تسمعه وأنت بمحاذاة البحر فتشعر بأمان لأنك بعيد منه، أما الآن فأنا في قلبه.

 بدأت الشمس تغرق شيئاً شيئاً، أذناي أصمّهما الموج وأتعبهما صوتي الداخليُّ المُعَرِّشُ بهواجسه على القضبان التي يخلقها نبضي الذي أسمعه عِرقاً عِرقاً، وأصمّني النهار كلّه بزحمته البعيدة.. كانت لحظة مباغتةً لوحيدٍ عائم في غسقٍ تُختبَرُ فيه قوّتُه وإيمانُه وأعصابُه.

واقف في الماء وقلبي يلهث، يضخّ الخوف إلى ركبتيّ وأسفل قدميّ.. أسوأ لحظة هي الخوف من الغرق وحيداً.. الخوف بشع، الشعور بالخوف لئيم جداً لأنه، حرفياً، نقلُك إلى الضفة الأخرى التي تتجنبها دوماً، بل وضعك في البعيد الموحش المجتَنَب.

 أشحبَ العتمُ الوجوهَ الناظرة إلى البحر من الكورنيش وظلّلتها سُدَفٌ من حمرة هي آخر أنفاس الشمس. ولمحت فيها وجوهًا تشاهدني ببرود أعصاب كأنها تشاهد مشهدًا مسلّيًا! والبحر يقهقه ويضربني بسياط من رهبة، بسياط مالحةٍ جداً، بسياط من عمر الكون، ويعلو بي ويخفضني. شعورك بأنّ تحت سيطرة شيء أكبر منك مزعجة جدًا، إنها تمسّ شيئاً شخصياً راسخاً فيك، تمسّ وتحطّم سيطرتك اليومية الموهومةَ عليك وعلى بعض أمور يومك، وهذا الشعور الموهوم المتراكم مع الوقت يكسبنا هيبة كاذبة تتجلّى أبشع صورها بتمطّينا وتثاؤبنا في عز نهاراتنا التي “لنا” قال!

الآن دخلت اللعبة، لعبة الأنفاس والأعصاب مع ذلك الوحش العتيق.

 في عزّ الموج الخابط المحيط، في حيرتي وتشتّتي داخل لعبته الكبيرة، إذّاك سطعت الشمس في رأسي، وبدأت أفكّر. وفكّرت بأنّ أوّل ما عليّ فعله أن ألجم موج الخوف الذي يضربني في الداخل، صرت أكلّمني: اسمع، اهدأ، روق، ما تخاف، إذا بتخاف بتغرق. والحقيقة أنّ الغرقى يُغرقهم خوفهم لا البحر، يغرقون في خوفهم أولاً ثم يلتهمهم البحر. وقفت نحو دقيقة أستجمع نفسي، والبحر حولي يدور ويرتفع بي ويزأر مَلولاً ناقِماً من وَحدته ووَحشته وعمره الطاعن في الأرض. وينتقم، لمَن تنتقم يا ابن الـ..؟ وأنا أضبط نفَسي وأعصابي ثم أغذّي نفسي بكلام مثل: لن تموت، ليس وقتك الآن، كن عاقلاً فكّر بعقلك. لديك مهمة الآن، أن تجد مخرجاً، أَجِّل خوفَك..

 في تلك اللحظة الصمّاء – من الأعلى: شاب وحيد في الموج يعالج ألم ظهره، باغته الموج ينظر حوله حائراً فزعاً.. في تلك اللحظة عرفت معنى اليقين حقاً، وبحثت عنه بيديّ ورجليّ وعينيّ، حتى وجدته وغذّيته لأبقى حيّاً.. أنت لا تبحث عن اليقين في أمنك وهدوئك بل في ما يخيفك.. وقارنته بكلّ لحظات حياتي الخالية منه، وقلت هذا يقين فضيّ، يقين ذهبيّ، لا غبار عليه.. يقين أقوى من كلّ صلواتي ومحاولاتي أن أكون متماسكاً: لا أدري كيف زُرعَ في رأسي أني سأخرج منتصراً، ناجياً، وتوكّلت على الله حقاً، وتسلل شيء من سعادة أطرد به أثر الخوف المخرِّب المهلِك.

بدأت أسبح مع البحر، عدت معه أقول: خذني حيث تشاء لن تدوم ثورتك. ورجعت وأرجعني وهو يضحك ضحكاً كافراً، مارقاً، يضحك ويُلقمني موجاً مالحاً: خذ… موج؟ ملح؟ خذ.. موجةً اثنتين؟ بَعد؟ ألا تغرق؟ لم لا تغرق؟ انزل.. وأنا لست ابن البحر، لكني أسبح منذ صغري، وأدركت أني لم أعرف البحر حقًا إلّا الآن.

سبحت مع ذلك الكافر على ظهري وأنا أتمتم وأرتجف وأصارع جبن النفس الممتدّ إلى عدمها، جبنها الأخرق الذي يجب انتزاعه كعروق القريدس المُرَّة باكراً.. سبحت كذلك حتى لمحت الصخر إلى يساري. قلت أستدير قليلاً فأخرج من الصخر. كان لا يزال هادراً بقوّته يرتفع ويخور، سبحت حتى صرت على الصخر، وقفت أخيراً. وقبل أن أصعد الصخرة الأخيرة أمسكني من أذنيّ وأدّبني حقًا: ستنجو ها؟ بدأ موجه العاتي يضرب الصخر، ذلك الموج “اللي بشيل الزلمة”. تمسّكت بجيوب الصخر البحري بالمئة كيلو التي جمعتها خلال سنتين، وصار الموج يضربني. تأتي الموجة بقوّة تكاد تنتزعك وترجع جازِرةً بقوّة جاذبة إلى الأسفل.. ركبتاي ترتجفان.. صار يعلو بي، يداي ثابتتان في الصخر، أبتلع الماء، ويهبط بي فيفرغ الصخر من الموج بقوّة فتعلق رجلاي بالصخر فيستمتع بقشر جلدهما وضرب قصبتيّ بتجاويف صخره. خذ.. يلا.. مرةً.. مرتين.. ثلاثاً.. أربعاً.. مُت، اغرق، تعال، هاهاها.. وأنا أحاول الصعود شبهَ أصمَّ، دائخًا عَطِشاً.. صعدت أخيراً، وبصقت في وجهه اللعين، خرجت أصطكّ من الخوف والبرد والدوار، رجلاي تنزّان دماً، أقول له: “فشرت”.

لكني خرجت مصدّقاً للأفكار التي بزغت في رأسي منذ قليل، صرت مصداقها؛ كانت لحظة من لحظات الحياة، من تطابق الباطن مع الظاهر.. وعرفت أنّ القوّة الحقيقية لا تأتي دون ثمن، ولن تأتي أبداً إلا بصدمة ثانية وثالثة. خرجت منتصراً، رغم كلّ الرعب، أشعر بقوّة غريبة، أعرف أنها لن تدوم أكثر من شهر، مع ذلك رفعني البحر درجة في القوّة. هكذا نحن يصقلنا البلاء ويجلونا الألم.. لكن البحر أدّبني فعلاً ذاك المغيب، أدّبني أدبين: أدباً له، وأدباً لي..

اترك تعليقاً

عبّر عن رأيك